بات الفضاء ساحة تنافُسٍ ليس للحكومات وحدها، وإنما لكبريات الشركات الخاصة أيضاً، مع بروز خدمات متنوعة في «اقتصاد الفضاء»، من بينها الاتصالات والاستكشافات وأنظمة المراقبة للعواصف والحرائق والكوارث على الأرض. وتمثل الأقمار الاصطناعية العمود الفقري لاقتصاد الفضاء، فعبْرها يمكن الوصول لبيانات وصور وخدمات الاتصالات والإنترنت، وتحديد المواقع من خلال نظام الملاحة عبر الإنترنت، أو إجراء مكالمات في المناطق النائية، وبث الإشارات لأجهزة التلفزيون.ويمثل 2019 العامَ الحاسم في السماح للشركات الخاصة بالعمل في المجال الفضائي، نظراً للتطور التكنولوجي وانخفاض تكاليف الأقمار الاصطناعية، بفعل الطلب المتزايد عليها، فالأقمار الحكومية الكبيرة باتت تقابلها الأقمار الاصطناعية التجارية الأصغر في المدار الأرضي المنخفض بتكلفة نحو 100 ألف دولار أو أقل، إضافة إلى ابتكار تقنيات جديدة كالمستشعرات عالية الدقة القادرة على التقاط الصور ومعالجة وتخزين البيانات بصورة أكثر كفاءة، واستفاد القطاع الخاص من التطورات التكنولوجية الحديثة، سواء من الاستثمار في التصنيع، أو من إطلاق الأقمار الاصطناعية.
ويسمح «إنترنت الفضاء» بالاتصال بشبكة الإنترنت لاسلكياً عبر الأقمار الاصطناعية في مدارات قريبة من الأرض، دون الاعتماد على الكابلات البحرية أو الأسلاك الكهربائية، بشرط استخدام معدات الاستقبال الأرضي. وفي صدارة الشركات التي تتنافس في إنترنت الفضاء «سبيس إكس»، الطامحة إلى توفير خدمة إنترنت الفضاء عالي السرعة للبشرية كلها، في أي نقطة على سطح الأرض، وبالفعل تُقدّم الشركة المملوكة للملياردير الأميركي، إيلون ماسك، خدماتها في بعض مناطق العالم، خاصة في بعض المناطق المرتبطة بالنزاعات والحروب، إذ تدفع الحروب والكوارث الطبيعية بالحلول التقنية إلى حل مأزق وصول الإنترنت، ولدى «ستارلينك» قدرات هائلة تزيد على أكثر من 250 ألف محطة لتقديم خدمة إنترنت عالية السرعة لربط المناطق النائية. وإلى جانب «ستارلينك»، أطلقت شركة «وان ويب» البريطانية برنامجاً يضم 428 قمراً اصطناعياً، وتخطط شركة «أمازون» لإطلاق 3236 قمراً اصطناعياً في المدار الأرضي المنخفض لتقديم خدمات إنترنت الفضاء في «مشروع كويبر»، وتملك شركة «يوتلسات» الفرنسية 35 قمراً اصطناعياً تنشرها على ارتفاع 36 ألف كم عن الأرض وتستخدمها للبث التلفزيوني، غير أنها توفر الإنترنت عالي السرعة، فيما تعمل شركة «تيلي سات» الكندية على تقديم خدماتها لبعض الدول الأوروبية بحلول 2024، من خلال إطلاق 298 قمراً اصطناعياً، لتوفر خدمة الإنترنت للهيئات الحكومية، وشركات الطيران والملاحة البحرية.
ووسط تنافس الشركات الكبرى في نشر شبكاتها عبر الأقمار الاصطناعية لتقديم خدمات الإنترنت، تحاول الصين المنافَسة في هذا المضمار، وبالفعل أطلقت شركة «شنغهاي سبيس كوم ساتلايت تكنولوجي» دفعة أولى من الأقمار تشمل 18 قمراً اصطناعيّاً، من ضمن خطة «كوكب الألف شراع»، هادفةً إلى نشر أكثر من 15 ألف قمر اصطناعي بحلول عام 2030، لتوفير الإنترنت الفضائي. إن الشركات تسعى إلى عدم اقتصار تقنية إنترنت الفضاء على المناطق النائية كبديل للشبكات التقليدية، لكنها تواجَه بارتفاع أسعار الخدمة، إذ يحتاج الاشتراك في خدمة «ستار لينك» نحو 600 دولار للمعدات وأكثر من 100 دولار كرسوم شهرية، ما يصعّب الخيارات في الدول ذات الدخل المنخفض، كما أن الحكومات قد تفرض قوانين على الاتصالات عبر الأقمار الاصطناعية، إضافةً إلى مخاوف الأمن والمراقبة.
والطريق أمام شركات إنترنت الفضاء طويل للتغلب على هذه التحديات، وإن كان أقربها خفض تكلفة الخدمة، ورفع السرعة بما يتعدى سرعة الإنترنت الأرضي. وعادةً ما تكون الدولة هي «المصدر الأساسي» للإنترنت، وتتبنى الحكومات قوانين لتنظيم «الأمن السيبراني والجرائم الإلكترونية»، لكن مع الإنترنت الفضائي ستتقلص سلطة الدولة، بل ستفقد السيطرة على الاتصالات، خاصة إذا تطور إنترنت الفضاء إلى الاتصال مباشرة عبر الأقمار الصناعية دون الحاجة إلى استقبال أرضي لإشارة البث الفضائي. لقد تقدّم قطاع الاتصالات بشكل غير مسبوق، فبعد الجيل الخامس للاتصالات اللاسلكية تتسع المنافسة بين كبريات الشركات في العالم لتقديم خدمات «إنترنت الفضاء»، فالمستقبل واعد مع التطور المتسارع في مجال التكنولوجيا والمعلومات والاتصالات، واحتمال وصول اقتصاد الفضاء إلى 1.8 تريليون دولار بحلول 2035 ارتفاعاً من 630 مليار دولار عام 2023، بمعدلات نمو تبلغ 9% سنوياً في المتوسط، أي تتجاوز النمو في الناتج المحلي الإجمالي العالمي.
* باحث رئيسي- نائب رئيس قطاع البحوث- مركز تريندز للبحوث والاستشارات